سورة ص - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ} قيل: فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة، وملك بعد الفتنة عشرين سنة، ذكره الزمخشري. و{فَتَنَّا} أي ابتلينا وعاقبنا. وسبب ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: اختصم إلى سليمان عليه السلام فريقان أحدهما من أهل جرادة امرأة سليمان، وكان يحبها فهوى أن يقع القضاء لهم، ثم قضى بينهما بالحق، فأصابه الذي أصابه عقوبة لذلك الهوى.
وقال سعيد بن المسيب: إن سليمان عليه السلام احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد، ولا ينصف مظلوما من ظالم، فأوحى الله تعالى إليه: «إنى لم أستخلفك لتحتجب عن عبادي ولكن لتقضي بينهم وتنصف مظلومهم».
وقال شهر بن حوشب ووهب بن منبه: إن سليمان عليه السلام سبى بنت ملك غزاة في البحر، في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون. فألقيت عليه محبتها وهي تعرض عنه، لا تنظر إليه إلا شزرا، ولا تكلمه إلا نزرا، وكان لا يرقأ لها دمع حزنا على أبيها، وكانت في غاية من الجمال، ثم إنها سألته أن يصنع لها تمثالا على صورة أبيها حتى تنظر إليه، فأمر فصنع لها فعظمته وسجدت له، وسجدت معها جواريها، وصار صنما معبودا في داره وهو لا يعلم، حتى مضت أربعون ليلة، وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره، وحرقه ثم ذراه في البحر.
وقيل: إن سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون واسمها جرادة- فيما ذكر الزمخشري- أعجب بها، فعرض عليها الإسلام فأبت، فخوفها فقالت: اقتلني ولا أسلم فتزوجها وهي مشركة فكانت تعبد صنما لها من ياقوت أربعين يوما في خفية من سليمان إلى أن أسلمت فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوما.
وقال كعب الأحبار: إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه.
وقال الحسن: إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره.
وقيل: إنه أمر ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غيرهم، فعوقب على ذلك، والله أعلم. قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} قيل: شيطان في قول أكثر أهل التفسيرين، ألقى الله شبه سليمان عليه السلام عليه، واسمه صخر بن عمير صاحب البحر، وهو الذي دل سليمان على ألماس حين أمر سليمان ببناء بيت المقدس، فصوتت الحجارة لما صنعت بالحديد، فأخذوا ألماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والفصوص وغيرها ولا تصوت. قال ابن عباس: كان ماردا لا يقوى عليه جميع الشياطين، ولم يزل يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان بن داود، وكان سليمان لا يدخل الكنيف بخاتمه، فجاء صخر في صورة سليمان حتى أخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان أم ولد له يقال لها الأمينة، قاله شهر ووهب.
وقال ابن عباس وابن جبير: اسمها جرادة. فقام أربعين يوما على ملك سليمان وسليمان هارب، حتى رد الله عليه الخاتم والملك.
وقال سعيد بن المسيب: كان سليمان قد وضع خاتمه تحت فراشه، فأخذه الشيطان من تحته.
وقال مجاهد: أخذه الشيطان من يد سليمان، لأن سليمان سأل الشيطان وكان اسمه آصف: كيف تضلون الناس؟ فقال له الشيطان: أعطني خاتمك حتى أخبرك. فأعطاه خاتمه، فلما أخذ الشيطان الخاتم جلس على كرسي سليمان، متشبها بصورته، داخلا على نسائه، يقضي بغير الحق، ويأمر بغير الصواب. واختلف في إصابته لنساء سليمان، فحكي عن ابن عباس ووهب بن منبه: أنه كان يأتيهن في حيضهن.
وقال مجاهد: منع من إتيانهن وزال عن سليمان ملكه فخرج هاربا إلى ساحل البحر يتضيف الناس، ويحمل سموك الصيادين بالأجر، وإذا أخبر الناس أنه سليمان أكذبوه. قال قتادة: ثم إن سليمان بعد أن استنكر بنو إسرائيل حكم الشيطان أخذ حوته من صياد. قيل: إنه استطعمها.
وقال ابن عباس: أخذها أجرة في حمل حوت.
وقيل: إن سليمان صادها فلما شق بطنها وجد خاتمه فيها، وذلك بعد أربعين يوما من زوال ملكه، وهي عدد الأيام التي عبد {فيها} الصنم في داره، وإنما وجد الخاتم في بطن الحوت، لأن الشيطان الذي أخذه ألقاه في البحر.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بينما سليمان على شاطئ البحر وهو يعبث بخاتمه، إذ سقط منه في البحر وكان ملكه في خاتمه.
وقال جابر بن عبد الله: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إله إلا الله محمد رسول الله.» وحكى يحيى بن أبي عمرو الشيباني أن سليمان وجد خاتمه بعسقلان، فمشى منها إلى بيت المقدس تواضعا لله تعالى. قال ابن عباس وغيره: ثم إن سليمان لما رد الله عليه ملكه، أخذ صخرا الذي أخذ خاتمه، ونقر له صخرة وأدخله فيها، وسد عليه بأخرى وأوثقها بالحديد والرصاص، وختم عليها بخاتمه وألقاها في البحر، وقال: هذا محبسك إلى يوم القيامة.
وقال علي رضي الله عنه: لما أخذ سليمان الخاتم، أقبلت إليه الشياطين والجن والإنس والطير والوحش والريح، وهرب الشيطان الذي خلف في أهله، فأتى جزيرة في البحر، فبعث إليه الشياطين فقالوا: لا نقدر عليه، ولكنه يرد عينا في الجزيرة في كل سبعة أيام يوما، ولا نقدر عليه حتى يسكر! قال: فنزح سليمان ماءها وجعل فيها خمرا، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر، فقال: والله إنك لشراب طيب إلا أنك تطيشين الحليم، وتزيدين الجاهل جهلا. ثم عطش عطشا شديدا ثم أتاه فقال مثل مقالته، ثم شربها فغلبت على عقله، فأروه الخاتم فقال: سمعا وطاعة. فأتوا به سليمان فأوثقه وبعث به إلى جبل، فذكروا أنه جبل الدخان فقالوا: إن الدخان الذي ترون من نفسه، والماء الذي يخرج من الجبل من بوله.
وقال مجاهد: اسم ذلك الشيطان آصف.
وقال السدي اسمه حبقيق، فالله أعلم. وقد ضعف هذا القول من حيث إن الشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء، ثم من المحال أن يلتبس على أهل مملكة سليمان الشيطان بسليمان حتى يظنوا أنهم مع نبيهم في حق، وهم مع الشيطان في باطل.
وقيل: إن الجسد ولد ولد لسليمان، وأنه لما ولد اجتمعت الشياطين، وقال بعضهم لبعض: إن عاش له ابن لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسخرة، فتعالوا نقتل ولده أو نخبله. فعلم سليمان بذلك فأمر الريح حتى حملته إلى السحاب، وغدا ابنه في السحاب خوفا من مضرة الشياطين، فعاقبه الله بخوفه من الشياطين، فلم يشعر إلا وقد وقع على كرسيه ميتا. قال معناه الشعبي. فهو الجسد الذي قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً}.
وحكى النقاش وغيره: إن أكثر ما وطئ سليمان جواريه طلبا للولد، فولد له نصف إنسان، فهو كان الجسد الملقى على كرسيه جاءت به القابلة فألقته هناك.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهد وا في سبيل الله فرسانا أجمعون» وقيل: إن الجسد هو آصف بن برخيا الصديق كاتب سليمان، وذلك أن سليمان لما فتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه، فأعاده إلى يده فسقط فأيقن بالفتنة، فقال له آصف: إنك مفتون ولذلك لا يتماسك في يدك، ففر إلى الله تعالى تائبا من ذلك، وأنا أقوم مقامك في عالمك إلى أن يتوب الله عليك، ولك من حين فتنت أربعة عشر يوما. ففر سليمان هاربا إلى ربه، واخذ آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت، وكان عنده علم من الكتاب. وقام آصف في ملك سليمان وعياله، يسير بسيره ويعمل بعمله، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله تعالى، ورد الله عليه ملكه، فأقام آصف في مجلسه، وجلس على كرسيه واخذ الخاتم.
وقيل: إن الجسد كان سليمان نفسه، وذلك أنه مرض مرضا شديدا حتى صار جسدا. وقد يوصف به المريض المضنى فيقال: كالجسد الملقى.
صفة كرسي سليمان وملكه:
روي عن ابن عباس قال: كان سليمان يوضع له ستمائة كرسي، ثم يجئ أشراف الناس فيجلسون مما يليه، ثم يأتي أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الريح فتقلهم، وتسير بالغداة الواحدة مسيرة شهر.
وقال وهب وكعب وغيرهما: إن سليمان عليه السلام لما ملك بعد أبيه، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء، وأمر أن يعمل بديعا مهولا بحيث إذا راه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيب، فأمر أن يعمل من أنياب الفيلة مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد، وأن يحف بنخيل الذهب، فحف بأربع نخلات من ذهب، شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، على رأس نخلتين منهما طاوسان من ذهب، وعلى رأس نخلتين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض، وجعلوا من جنبي الكرسي أسدين من ذهب، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر.
وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي. وكان سليمان عليه السلام إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى، فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها، ويبسط الأسدان أيديهما، ويضربان الأرض بأذنابهما. وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان، فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأسه، ثم يستدير الكرسي بما فيه، ويدور معه النسران والطاوسان والأسدان مائلان برءوسهما إلى سليمان، وينضحن عليه من أجوافهن المسك والعنبر، ثم تناول حمامة من ذهب قائمة على عمود من أعمدة الجواهر فوق الكرسي التوراة، فيفتحها سليمان عليه السلام ويقرؤها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء. قالوا: ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة بالجواهر، وهي ألف كرسي عن يمينه، ويجلس عظماء الجن على كراسي الفضة عن يساره وهي ألف كرسي، ثم تحف بهم الطير تظلهم، ويتقدم الناس لفصل القضاء. فإذا تقدمت الشهود للشهادات، دار الكرسي بما فيه وعليه دوران الرحى المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما، وينشر النسران والطاوسان أجنحتهما، فتفزع الشهود فلا يشهدون إلا بالحق.
وقيل: إن الذي كان يدور بذلك الكرسي تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه، وهو عظيم مما عمله له صخر الجني، فإذا أحست بدورانه تلك النسور والأسد والطواويس التي في أسفل الكرسي إلى أعلاه درن معه، فإذا وقفن وقفن كلهن عل رأس سليمان وهو جالس، ثم ينضحن جميعا على رأسه ما في أجوافهن من المسك والعنبر. فلما توفي سليمان بعث بخت نصر فأخذ الكرسي فحمله إلى أنطاكية، فأراد أن يصعد إليه ولم يكن له علم كيف يصعد إليه، فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله فكسرها، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعا. ومات بخت نصر وحمل الكرسي إلى بيت المقدس، فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه، ولكن لم يدر أحد عاقبة أمره ولعله رفع.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنابَ} أي رجع إلى الله وتاب. وقد تقدم. قوله تعالى: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} أي أغفر لي ذنبي {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} يقال: كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا مع ذمها من الله تعالى، وبغضه لها، وحقارتها لديه؟. فالجواب أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله تعالى وسياسة ملكه، وترتيب منازل خلقه، وإقامة حدوده، والمحافظة على رسومه، وتعظيم شعائره، وظهور عبادته، ولزوم طاعته، ونظم قانون الحكم النافذ عليهم منه، وتحقيق الوعود في أنه يعلم ما لا يعلم أحد من خلقه حسب ما صرح بذلك لملائكته فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] وحوشي سليمان عليه السلام أن يكون سؤاله طلبا لنفس الدنيا، لأنه هو والأنبياء أزهد خلق الله فيها، وإنما سأل مملكتها لله، كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك، فأجيب نوح فأهلك من عليها، وأعطى سليمان المملكة. وقد قيل: أن ذلك كان بأمر من الله جل وعز على الصفة التي علم الله أنه لا يضبطه إلا هو وحده دون سائر عباده، أو أراد أن يقول ملكا عظيما فقال: {لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} وهذا فيه نظر. والأول أصح. ثم قال له: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} قال الحسن: ما من أحد إلا ولله عليه تبعة في نعمه غير سليمان بن داود عليه السلام فإنه قال: {هذا عَطاؤُنا} الآية. قلت: وهذا يرد ما روي في الخبر: إن آخر الأنبياء دخولا الجنة سليمان بن داود عليه السلام لمكان ملكه في الدنيا. وفى بعض الأخبار: يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفا، ذكره صاحب القوت وهو حديث لا أصل له، لأنه سبحانه إذا كان عطاؤه لا تبعة فيه لأنه من طريق المنة، فكيف يكون آخر الأنبياء دخولا الجنة، وهو سبحانه يقول: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
وفي الصحيح: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته» الحديث. وقد تقدم فجعل له من قبل السؤال حاجة مقضية، فلذلك لم تكن عليه تبعة. ومعنى قوله: {لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} أي أن يسأله. فكأنه سأل منع السؤال بعده، حتى لا يتعلق به أمل أحد، ولم يسأل منع الإجابة.
وقيل: إن سؤاله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، ليكون محله وكرامته من الله ظاهرا في خلق السموات والأرض، فإن الأنبياء عليهم السلام لهم تنافس في المحل عنده، فكل يحب أن تكون له خصوصية يستدل بها على محله عنده، ولهذا لما أخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العفريت الذي أراد أن يقطع عليه صلاته وأمكنه الله منه، أراد ربطه ثم تذكر قوله أخيه سليمان: {رب أغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي} فرده خاسئا. فلو أعطي أحد بعده مثله ذهبت الخصوصية، فكأنه كره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يزاحمه في تلك الخصوصية، بعد أن علم أنه شيء هو الذي خص به من سخرة الشياطين، وأنه أجيب إلى ألا يكون لأحد بعده. والله أعلم. قوله تعالى: {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً} أي لينة مع قوتها وشدتها حتى لا تضر بأحد، وتحمله بعسكره وجنوده وموكبه. وكان موكبه فيما روي فرسخا في فرسخ، مائة درجة بعضها فوق بعض، كل درجة صنف من الناس، وهو في أعلى درجة مع جواريه وحشمه وخدمه، صلوات الله وسلامه عليه.
وذكر أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا أحمد بن جعفر، قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن إدريس بن وهب بن منبه، قال حدثني أبي قال: كان لسليمان ابن داود عليه السلام ألف بيت أعلاه قوارير وأسفله حديد، فركب الريح يوما فمر بحراث فنظر إليه الحراث فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما! فحملت الريح كلامه فألقته في أذن سليمان، قال فنزل حتى أتى الحراث فقال: إني سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى مالا تقدر عليه، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك لخير مما أوتي آل داود. فقال الحراث: أذهب الله همك كما أذهبت همي. قوله تعالى: {حَيْثُ أَصابَ} أي أراد، قاله مجاهد. والعرب تقول: أصاب الصواب وأخطأ الجواب. أي أراد الصواب وأخطأ الجواب، قال ابن الأعرابي.
وقال الشاعر:
أصاب الكلام فلم يستطع *** وفأخطأ الجواب لدى المفصل
وقيل: أصاب أراد بلغة حمير.
وقال قتادة: هو بلسان هجر.
وقيل: {حيث أصاب} حينما قصد، وهو مأخوذ من إصابة السهم الغرض المقصود. {وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} أي وسخرنا له الشياطين وما سخرت لأحد قبله. {كُلَّ بَنَّاءٍ} بدل من الشياطين أي كل بناء منهم، فهم يبنون له ما يشاء. قال:
إلا سليمان إذ قال الإله له *** قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم ***- يبنون تدمر بالصفاح والعمد
{وَغَوَّاصٍ} يعني في البحر يستخرجون له الدر. فسليمان أول من استخرج له اللؤلؤ من البحر. {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ} أي وسخرنا له مردة الشياطين حتى قرنهم في سلاسل الحديد وقيود الحديد، قال قتادة. السدي: الأغلال. ابن عباس: في وثاق. ومنه قول الشاعر:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ***- وأبنا بالملوك مصفدينا
قال يحيى بن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم. قوله تعالى: {هذا عَطاؤُنا} الإشارة بهذا إلى الملك، أي هذا الملك عطاؤنا فأعط من شئت أو امنع من شئت لا حساب عليك، عن الحسن والضحاك وغيرهما. قال الحسن: ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه فيها تبعة إلا سليمان عليه السلام، فإن الله تعالى يقول: {هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ}.
وقال قتادة: الإشارة في قوله تعالى: {هذا عَطاؤُنا} إلى ما أعطيه من القوة على الجماع، وكانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية، وكان في ظهره ماء مائة رجل، رواه عكرمة عن ابن عباس. ومعناه في البخاري. وعلى هذا {فَامْنُنْ} من المني، يقال: أمنى يمني ومنى يمني لغتان، فإذا أمرت من أمنى قلت أمن، ويقال: من منى يمني في الأمر آمن، فإذا جئت بنون الفعل نون الخفيفة قلت امنن. ومن ذهب به إلى المنة قال: من عليه، فإذا أخرجه مخرج الأمر أبرز النونين، لأنه كان مضاعفا فقال امنن. فيروى في الخبر أنه سخر له الشياطين، فمن شاء من عليه بالعتق والتخلية، ومن شاء أمسكه، قال قتادة والسدي. وعلى ما روى عكرمة عن ابن عباس: أي جامع من شئت من نسائك، واترك جماع من شئت منهن لا حساب عليك. {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} أي إن أنعمنا عليه في الدنيا فله عندنا في الآخرة قربة وحسن مرجع.


{وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43)}
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ} أمر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاقتداء بهم في الصبر على المكاره. {أَيُّوبَ} بدل. {إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ} وقرأ عيسى بن عمر {إني} بكسر الهمزة أي قال. قال الفراء: وأجمعت القراء على أن قرءوا {بِنُصْبٍ} بضم النون والتخفيف. النحاس: وهذا غلط وبعده مناقضة وغلط أيضا، لأنه قال: أجمعت القراء على هذا، وحكى بعده أنهم ذكروا عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ: {بنصب} بفتح النون والصاد فغلط على أبي جعفر، وإنما قرأ أبو جعفر: {بنصب} بضم النون والصاد، كذا حكاه أبو عبيد وغيره وهو مروي عن الحسن. فأما {بنصب} فقراءة عاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي. وقد رويت هذه القراءة عن الحسن وقد حكي {بنصب} بفتح النون وسكون الصاد عن أبي جعفر. وهذا كله عند أكثر النحويين بمعنى النصب فنصب ونصب كحزن وحزن. وقد يجوزان يكون نصب جمع نصب كو، ثن ووثن. ويجوز أن يكون نصب بمعنى نصب حذفت منه الضمة، فأما {وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] فقيل: إنه جمع نصاب.
وقال أبو عبيدة وغيره: النصب الشر والبلاء. والنصب التعب والإعياء. وقد قيل في معنى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ} أي ما يلحقه من وسوسته لا غير. والله أعلم. ذكره النحاس.
وقيل: إن النصب ما أصابه في بدنه، والعذاب ما أصابه في ماله، وفية بعد.
وقال المفسرون: إن أيوب كان روميا من البثنية وكنيته أبو عبد الله في قول الواقدي، اصطفاه الله بالنبوة، وأتاه جملة عظيمة من الثروة في أنواع الأموال والأولاد. وكان شاكرا لأنعم الله، مواسيا لعباد الله، برا رحيما. ولم يؤمن به إلا ثلاثة نفر. وكان لإبليس موقف من السماء السابعة في يوم من العام، فوقف به إبليس على عادته، فقال الله له أو قيل له عنه: أقدرت من عبدي أيوب على شي؟ فقال: يا رب وكيف أقدر منه على شي، وقد ابتليته بالمال والعافية، فلو ابتليته بالبلاء والفقر ونزعت منه ما أعطيته لحال عن حاله، ولخرج عن طاعتك،. قال الله: قد سلطتك على أهله وماله. فانحط عدو الله فجمع عفاريت الجن فأعلمهم، وقال قائل منهم: أكون إعصارا فيه نار أهلك ماله فكان، فجاء أيوب في صورة قيم ماله فأعلمه بما جرى، فقال: الحمد لله هو أعطاه وهو منعه. ثم جاء قصره بأهله وولده، فاحتمل القصر من نواحيه حتى ألقاه على أهله وولده، ثم جاء إليه وأعلمه فألقى التراب على رأسه، وصعد إبليس إلى السماء فسبقته توبة أيوب. قال: يا رب سلطني على بدنه. قال: قد سلطتك على بدنه إلا على لسانه وقلبه وبصره، فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها فصار في جسده ثآليل فحكها بأظفاره حتى دميت، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه.
وقال عند ذلك: {مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ}. ولم يخلص إلى شيء من حشوة البطن، لأنه لا بقاء للنفس إلا بها فهو يأكل ويشرب، فمكث كذلك ثلاث سنين. فلما غلبه أيوب اعترض لامرأته في هيئة أعظم من هيئة بني آدم في القدر والجمال، وقال لها: أنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت، ولو سجدت لي سجدة واحدة لرددت عليه أهله وماله وهم عندي. وعرض لها في بطن الوادي ذلك كله في صورته، أي أظهره لها، فأخبرت أيوب فأقسم أن يضربها إن عافاه الله. وذكروا كلاما طويلا في سبب بلائه ومراجعته لربه وتبرمه من البلاء الذي نزل به، وأن النفر الثلاثة الذين آمنوا به نهوه عن ذلك واعترضوا عليه، وقيل: استعان به مظلوم فلم ينصره فابتلي بسبب ذلك.
وقيل: استضاف يوما الناس فمنع فقيرا الدخول فابتلي بذلك.
وقيل: كان أيوب يغزو ملكا وكان له غنم في ولايته، فداهنه لأجلها بترك غزوه فابتلي. وقيل،: كان الناس يتعدون امرأته ويقولون نخشى العدوى وكانوا يستقذرونها، فلهذا قال. {مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ}. وامرأته ليا بنت يعقوب. وكان أيوب في زمن يعقوب وكانت أمه ابنة لوط.
وقيل: كانت زوجة أيوب رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام. ذكر القولين الطبري رحمه الله. قال ابن العربي: ما ذكره المفسرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة يوما من العام فقول باطل، لأنه أهبط منها بلعنة وسخط إلى الأرض، فكيف يرقى إلى محل الرضا، ويجول في مقامات الأنبياء، ويخترق السموات العلى، ويعلو إلى السماء السابعة إلى منازل الأنبياء، فيقف موقف الخليل؟! إن هذا لخطب من الجهالة عظيم. وأما قولهم: إن الله تعالى قال له هل قدرت من عبدي أيوب على شيء فباطل قطعا، لأن الله عز وجل لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس الملعون، فكيف يكلم من تولى إضلالهم؟! وأما قولهم: إن الله قال قد سلطتك على ماله وولده فذلك ممكن في القدرة، ولكنه بعيد في هذه القصة. وكذلك قولهم: إنه نفخ في جسده حين سلطه عليه فهو أبعد، والباري سبحانه قادر على أن يخلق ذلك كله من غير أن يكون للشيطان فيه كسب حتى تقر له- لعنة الله عليه- عين بالتمكن من الأنبياء في أموالهم وأهليهم وأنفسهم. وأما قولهم: إنه قال لزوجته أنا إله الأرض، ولو تركت ذكر الله وسجدت أنت لي لعافيته، فاعلموا وإنكم لتعلمون أنه لو عرض لأحدكم وبه ألم وقال هذا الكلام ما جاز عنده أن يكون إلها في الأرض، وأنه يسجد له، وأنه يعافي من البلاء، فكيف أن تستريب زوجة نبي؟! ولو كانت زوجة سوادي أو فدم بربري ما ساغ ذلك عندها. وأما تصويره الأموال والأهل في واد للمرأة فذلك ما لا يقدر عليه إبليس بحال، ولا هو في طريق السحر فيقال إنه من جنسه.
ولو تصور لعلمت المرأة أنه سحر كما نعلمه نحن وهي فوقنا في المعرفة بذلك، فإنه لم يخل زمان قط من السحر وحديثه وجريه بين الناس وتصويره. قال القاضي: والذي جرأهم على ذلك وتذرعوا به إلى ذكر هذا قوله تعالى: {إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ} فلما رأوه قد شكا مس الشيطان أضافوا إليه من رأيهم ما سبق من التفسير في هذه الأقوال. وليس الأمر كما زعموا والأفعال كلها خيرها وشرها. في إيمانها وكفرها، طاعتها وعصيانها، خالقها هو الله لا شريك له في خلقه، ولا في خلق شيء غيرها، ولكن الشر لا ينسب إليه ذكرا، وإن كان موجودا منه خلقا، أدبا أدبنا به، وتحميدا علمناه. وكان من ذكر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه به قول من جملته: «والخير في يديك والشر ليس إليك» على هذا المعنى. ومنه قول إبراهيم: {وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] وقال الفتى للكليم: {وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ} [الكهف: 63] وأما قولهم: انه استعان به مظلوم فلم ينصره، فمن لنا بصحة هذا القول. ولا يخلو أن يكون قادرا على نصره، فلا يحل لأحد تركه فيلام على أنه عصى وهو منزه عن ذلك،. أو كان عاجزا فلا شيء عليه في ذلك، وكذلك قولهم: إنه منع فقيرا من الدخول، إن كان علم به فهو باطل عليه وإن لم يعلم به فلا شيء عليه فيه. وأما قولهم: إنه داهن على غنمه الملك الكافر فلا تقل داهن ولكن قل دارى. ودفع الكافر والظالم عن النفس أو المال بالمال جائز، نعم وبحسن الكلام. قال ابن العربي القاضي أبو بكر رضي الله عنه: ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين، الأولى قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] والثانية في: {ص} {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ}. وأما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله: «بينا أيوب يغتسل إذ خر عليه رجل من جراد من ذهب» الحديث. وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، وأصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا وفي الصحيح واللفظ للبخاري أن ابن عباس قال: يا معشر المسلمين تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله، تقرءونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب، فقالوا: {هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا} [البقرة: 79] ولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم، وقد أنكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الموطأ على عمر قراءته التوراة. قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} الركض الدفع بالرجل. يقال: ركض الدابة وركض ثوبه برجله.
وقال المبرد: الركض التحريك، ولهذا قال الأصمعي: يقال ركضت الدابة ولا يقال ركضت هي، لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ولا فعل لها في ذلك.
وحكى سيبويه: ركضت الدابة فركضت مثل جبرت العظم فجبر وحزنته فحزن، وفى الكلام إضمار أي قلنا له: {ارْكُضْ} قال الكسائي. وهذا لما عافاه الله. {هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ} أي فركض فنبعت عين ماء فاغتسل به، فذهب الداء من ظاهره، ثم شرب منه فذهب الداء من باطنه.
وقال قتادة: هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية، فاغتسل من إحداهما فأذهب الله تعالى ظاهر دائه، وشرب من الأخرى فأذهب الله تعالى باطن دائه. ونحوه عن الحسن ومقاتل، قال مقاتل: نبعت عين حارة واغتسل فيها فحرج صحيحا ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماء عذبا.
وقيل: أمر بالركض بالرجل ليتناثر عنه كل داء في جسده. والمغتسل الماء الذي يغتسل به، قال القتبي.
وقيل: إنه الموضع الذي يغتسل فيه، قال مقاتل. الجوهري: واغتسلت بالماء، والغسول الماء الذي يغتسل به، وكذلك المغتسل، قال الله تعالى: {هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ} والمغتسل أيضا الذي يغتسل فيه، والمغسل والمغسل بكسر السين وفتحها مغسل الموتى والجمع المغاسل. واختلف كم بقي أيوب في البلاء، فقال ابن عباس: سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات.
وقال وهب بن منبه: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وترك يوسف، في السجن سبع سنين، وعذب بخت نصر وحول في السباع سبع سنين. ذكره أبو نعيم.
وقيل: عشر سنين.
وقيل: ثمان عشرة سنة. رواه أنس مرفوعا فيما ذكر الماوردي: قلت: وذكره ابن المبارك، أخبرنا يونس بن يزيد، عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر يوما أيوب، وما أصابه من البلاء، وذكر أن البلاء الذي أصابه كان به ثمان عشرة سنة. وذكر الحديث القشيري.
وقيل: أربعين سنة. قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} تقدم في الأنبياء الكلام فيه. {رَحْمَةً مِنَّا} أي نعمة منا. {وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ} أي عبرة لذوي العقول.


{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: كان أيوب حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة، وفي سبب ذلك أربعة أقوال: أحدها ما حكاه ابن عباس أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب، فقال أداويه على أنه إذا برئ قال أنت شفيتني، لا أريد جزاء سواه. قالت: نعم فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها. وقال: ويحك ذلك الشيطان.
الثاني- ما حكاه سعيد بن المسيب، أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه من الخبز، فخاف خيانتها فحلف ليضربنها.
الثالث- ما حكاه يحيى بن سلام وغيره: أن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقربا إليه وأنه يبرأ، فذكرت ذلك له فحلف ليضربنها إن عوفي مائة. الرابع قيل: باعت ذوائبها برغيفين إذ لم تجد شيئا تحمله إلى أيوب، وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضرب به، فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة.
وقيل: الضغث قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس.
وقال ابن عباس: إنه إثكال النخل الجامع بشماريخه.
الثانية: تضمنت هذه الآية جواز ضرب الرجل امرأته تأديبا. وذلك أن امرأة أيوب أخطأت فحلف ليضربنها مائة، فأمره الله تعالى أن يضربها بعثكول من عثاكيل النخل، وهذا لا يجوز في الحدود. إنما أمره الله بذلك لئلا يضرب امرأته فوق حد الأدب. وذلك أنه ليس للزوج أن يضرب امرأته فوق حد الأدب، ولهذا قال عليه السلام: «واضربوهن ضربا غير مبرح» على ما تقدم في النساء بيانه.
الثالثة: واختلف العلماء في هذا الحكم هل هو عام أو خاص بأيوب وحده، فروى عن مجاهد أنه عام للناس. ذكره ابن العربي. وحكي عن القشيري أن ذلك خاص بأيوب.
وحكى المهدوي عن عطاء بن أبي رباح أنه ذهب إلى أن ذلك حكم باق، وأنه إذا ضرب بمائة قضيب ونحوه ضربة واحدة بر. وروي نحوه الشافعي.
وروى نحوه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المقعد الذي حملت منه الوليدة، وأمر أن يضرب بعثكول فيه مائة شمراخ ضربة واحدة.
وقال القشيري: وقيل لعطاء هل يعمل بهذا اليوم؟ فقال: ما أنزل القرآن إلا ليعمل به ويتبع. ابن العربي: وروي عن عطاء أنها لأيوب خاصة. وكذلك روى أبو زيد عن ابن القاسم عن مالك: من حلف ليضربن عبده مائة فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر. قال بعض علمائنا: يريد مالك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً} [المائدة: 48] أي إن ذلك منسوخ بشريعتنا. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي أنه جلد الوليد بن عقبة بسوط له طرفان أربعين جلدة. وأنكر مالك هذا وتلا قول الله عز وجل: {فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وهذا مذهب أصحاب الرأي. وقد احتج الشافعي لقوله بحديث، وقد تكلم في إسناده، والله أعلم. قلت: الحديث الذي أحتج به الشافعي خرجه أبو داود في سننه قال: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، قال حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأنصار، أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى، فعاد جلدة على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال: استفتوا لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإني قد وقعت على جارية دخلت علي. فذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة. قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة، أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو ذلك بقلبه يكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ولا يحنث. قال ابن المنذر: وإذا حلف الرجل ليضربن عبده مائة فضربه ضربا خفيفا فهو بار عند الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي.
وقال مالك: ليس الضرب إلا الضرب الذي يؤلم.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلا تَحْنَثْ} دليل على أن الاستثناء في اليمين لا يرفع حكمها إذا كان متراخيا. وقد مضى، القول فيه في المائدة يقال: حنث في يمينه يحنث إذا لم يبر بها. وعند الكوفيين الواو مقحمة أي فاضرب لا تحنث.
الخامسة: قال ابن العربي: قوله تعالى: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} يدل على أحد وجهين: إما أن يكون أنه لم يكن في شرعهم كفارة، وإنما كان البر والحنث. والثاني أن يكون صدر منه نذر لا يمين وإذا كان النذر معينا فلا كفارة فيه عند مالك وأبي حنيفة.
وقال الشافعي: في كل نذر كفارة. قلت: قوله إنه لم يكن في شرعهم كفارة ليس بصحيح، فإن أيوب عليه السلام لما بقي في البلاء ثمان عشرة سنة، كما في حديث ابن شهاب، قال له صاحباه: لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه. فقال أيوب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أدري ما تقولان، غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان فكل يحلف بالله، أو على النفر يتزاعمون فانقلب إلى أهلي، فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد يذكره ولا يذكره إلا بحق فنادى ربه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] وذكر الحديث. فقد أفادك هذا الحديث أن الكفارة كانت من شرع أيوب، وأن من كفر عن غيره بغير إذنه فقد قام بالواجب عنه وسقطت عنه الكفارة.
السادسة: استدل بعض جهال المتزهدة، وطغام المتصوفة بقوله تعالى لأيوب: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} على جواز الرقص. قال أبو الفرج الجوزي: وهذا احتجاج بارد، لأنه لو كان أمر بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة، وإنما أمر بضرب الرحل لينبع الماء. قال ابن عقيل: أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب برجله الأرض لينبع الماء أعجازا من الرقص، ولين جاز أن يكون تحريك رجل قد انحلها تحكم الهوام دلالة على جواز الرقص في الإسلام، جاز أن يجعل قوله سبحانه لموسى: {اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ} دلالة على ضرب المحاد بالقضبان! نعوذ بالله من التلاعب بالشرع. وقد احتج بعض قاصريهم بان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعلى: «أنت منى وأنا منك» فحجل.
وقال الجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» فحجل وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» فحجل. ومنهم من احتج بان الحبشة زفنت والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إليهم. والجواب- أما العجل فهو نوع من الشيء يفعل عند الفرح فأين هو والرقص، وكذلك زفن الحبشة نوع من الشيء يفعل عند اللقاء للحرب.
السابعة: قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً} أي على البلاء. {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي تواب رجاع مطيع. وسيل سفيان عن عبدين ابتلى أحدهما فصبر، وأنعم على الآخر فشكر، فقال: كلاهما سواء، لأن الله تعالى أثنى على عبدين، أحدهما صابر والآخر شاكر ثناء واحدا، فقال في وصف أيوب: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} وقال في وصف سليمان: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.
قلت: وقد رد هذا الكلام صاحب القوت واستدل بقصة أيوب في تفضيل الفقير على الغني وذكر كلاما كثيرا شيد به كلامه، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع من كتاب منهج العباد ومحجة السالكين والزهاد. وخفي عليه أن أيوب عليه السلام كان أحد الأغنياء من الأنبياء قبل البلاء وبعده، وإنما ابتلي بذهاب ماله وولده وعظيم الداء في جسده. وكذلك الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه صبروا على ما به امتحنوا وفتنوا. فأيوب عليه السلام دخل في البلاء على صفة، فخرج منه كما دخل فيه، وما تغير منه حال ولا مقال، فقد اجتمع مع أيوب في المعنى المقصود، وهو عدم التغير الذي يفضل فيه بعض الناس بعضا. وبهذا الاعتبار يكون الغني الشاكر والفقير الصابر سواء. وهو كما قال سفيان. والله أعلم.
وفي حديث ابن شهاب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن أيوب خرج لما كان يخرج إليه من حاجته فأوحى الله إليه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ} فاغتسل فأعاد الله لحمه وشعره وبشره على أحسن ما كان ثم شرب فأذهب الله كل ما كان في جوفه من ألم أو ضعف وأنزل الله عليه ثوبين من السماء أبيضين فائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر ثم أقبل يمشي إلى منزله وراث على امرأته فأقبلت حتى لقيته وهي لا تعرفه فسلمت عليه وقالت أي يرحمك الله هل رأيت هذا الرجل المبتلى؟ قال من هو؟ قالت نبي الله أيوب، أما والله ما رأيت أحدا قط أشبه به منك إذ كان صحيحا. قال فإني أيوب واخذ ضغثا فضربها به فزعم ابن شهاب أن ذلك الضغث كان ثماما. ورد الله إليه أهله ومثلهم معهم، فأقبلت سحابة حتى سجلت في أندر قمحه ذهبا حتى أمتلأ، وأقبلت سحابة أخرى إلى أندر شعيرة وقطانيه فسجلت فيه ورقا حتى امتلأ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8